نجحت في استقطاب كتلة تعتبر مرتفعة نسبياً من أصحاب الاختصاصات العليا
بقلم النائب علي فياض(*)
لم تزل السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، خارج الاضواء الكاشفة للاعلام اللبناني، رغم تخطيها عتبة التأسيس ومخاضات الولادة، وامتلاكها أسباب الفاعلية الميدانية والحضور المقاوم . ويعود ذلك إلى الخصوصيات الكثيفة التي احاطت بمشروع السرايا نفسه، وهي ما تجعل من السرايا تجربة غير مسبوقة وغير متماثلة، ورغم انضوائها من الناحية الميدانية واللوجستية تحت اشراف أختها الكبرى المقاومة الاسلامية، إلا أن السرايا اختصت بميزات واحيطت بظروف استثنائية تجعل منها تجربة قائمة بذاتها: ثمة غفل فردي ذائب في هوية جماعية، وهذه الهوية ليست سوى"وطنية" صرفه مكثفة وشديدة الحضور، وسيبقى ملفتاً في هذه التجربة، وهو أقوى مواطن تميزها، إنها إطار توحيدي لمقاومين من روافد سياسية وطائفية ومناطقية مختلفة، وهي بذلك تعكس صورة الفسيفساء اللبنانية الراسخة، لكن وفق مفارقة مدهشة هذه المرة، تنأى بالتنوع اللبناني خارج مجاله التصارعي إلى مجال تكاملي وتوحيدي، تمدّه المقاومة بمادته ومعناه، ومجدداً تغدو المقاومة اختراقاً للانقسام اللبناني بمنطقها التوحيدي، بدل أن يخترقها هذا الانقسام بخطابه و تجاذباته ، وكذلك ، سيبقى ملفتاً في هذه التجربة ولدى مقاومي السرايا، ذلك الانتماء المحض للوطن وذلك العداء المطلق للمحتل الاسرائيلي من خلال انخراطهم الصامت لكن المؤثر جداً في فعاليات المقاومة، خارج سياقات التحزب وبعيداً عن تناحر السياسات والافكار.
إلى ذلك تندرج السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال كتجربة ونموذج في سياق تطور نوعي في مسار الصراع مع العدو الاسرائيلي، ولئن شكلت ولادة "السرايا اللبنانية ".. استجابة لدعوة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله لتأسيسها إلا أن هذه الدعوة في جوهرها، مثلت تعبيراً عن لحظة تاريخية لوعي لبناني مكثف، التقط الأمين العام نضج ظروفها ومعطياتها وتضافر مقومات نجاحها واكتمال شروط تشكلها وانطلاقها، وبهذا لم تكن " السرايا" ، بحال من الاحوال تكيُّفاً تكتيكياً مع ضرورات مرحلة، ولا استجابة عابرة لمناخات المطالبة بعدم الاستئثار ، بل نقلة تطورية في مسار المقاومة بالاستناد إلى تطور في وعي وواقع الصراع مع العدو.
لقد طالما طرحت المقاومة في ادبياتها ضرورة تشكيل مجتمع مقاوم، وبناء كتلة تاريخية تضم بين جنباتها تيارات وتنويعات سياسية وفكرية مختلفة تنضوي جميعها في إطار مواجهة تاريخية مع العدو، ويبدو ذلك ضرورة لا مناص منها، في إطار رسم استراتيجية مستقبلية لمواجهة شاملة وجذرية مع العدو تتجاوز الحسابات الموضعية الحاكمة لهذه الساحة أو تلك من ساحات المواجهة .
وإذا كانت المقاومة الاسلامية في الجنوب، تشكل راهناً الرافعة العملية لهذا المشروع، الا تشكِّل في السياق ذاته، " السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي"، النواة العملية لتلك الكتلة التاريخية العتيدة، من حيث هي إطار مقاومة توحيدي، هاضم للتنوعات السياسية والاختلافات الفكرية من غير أن تتحول عائقاً أمام التفاعل وحائلاً دون التكامل؟ الا تدل تجربة السرايا بعد نجاحها في الولادة أولا والاستمرار ثانياً، نموذجاً على إمكانية تحويل المقاومة مع العدو إلى هوية جامعة، وايديولوجية سياسية تترتب على اساسها الأولويات والبرامج؟ .
بزعمنا الاجابة بلى، مع ادراكنا أن تجربة "السرايا" لا تزال في طور التشكل، رغم انتاجها الميداني، ويبدو الزمن ملحاً وضرورياً لإستكمال اندفاعة هذه التجربة وإنضاجها وانفتاحها على آفاق أرحب وأوسع مدى .
وبالعودة إلى التشكل الداخلي لبنية "السرايا" اللبنانية، سيتبين لنا، عند تحليل الارقام والمؤشرات، إلى أي مدى تعكس بنية السرايا، المركَّب الاجتماعي – السياسي للواقع اللبناني، وكيف أن السرايا اللبنانية شكلت فعلاً إطاراً جامعاً، تنسجم وظيفته مع أهدافه وبنيته، وابتداء من المفيد الاشارة إلى أن السرايا اللبنانية قد نفذت منذ انطلاقها في 14/3/98 ولغاية 15/11/99 176 هجوماً عسكرياً ، تراوح بين القصف والاشتباك، ويبدو عدد الهجومات قياساً إلى حداثة التجربة وعمر السرايا الذي لم يبلغ سنتين بعد، مرتفعاً ويدل على حيوية وحضور شبه يومي في ميدان المواجهة. فضلاً عن ذلك يمكن الاطلالة على الجوانب التالية :
أولا : على المستوى الاجتماعي :
إن ملاحظة جدول توزع مقاومي السرايا على الفئات العمرية، يدل على تنوع في أعمار المقاومين بحيث تتركز غالبيتهم ( 46.1%) على الفئة العمرية (25-30) وهي عادة الفئة التي تجمع ما بين الفتوة الجسدية والنضج السياسي، أي اتضاح الخيارات الشخصية واستقرار القناعات العامة، في حين تبلغ نسبة المقاومين الذين تجاوزوا عمر الثلاثين ( 29.3%) وهي نسبة مرتفعة جداً قياساً بطبيعة العمل المقاوم الذي يستلزم جهداً جسدياً استثنائياً، وقد يكمن الجواب على ذلك في كون أغلبية من ينتمي لهذه الفئة العمرية هم من المسيسين، الذين خاضوا تجارب سياسية سابقة، وتشكل لهم المقاومة الآن طريقاً للتصالح مع الذات بعد اخفاق التجارب الحزبية الاهلية، وفي مطلق الاحوال فإن دلالة تجاوز 75% من مقاومي "السرايا" عمر الخمس والعشرين عاماً، تفترض رسوخ الانتماء للسرايا تبعاً لخيارات مدروسة وقرارات عقلانية دون هوىً أو تسرع، وإذا ما اضفنا إلى ذك كون 31% من الملتحقين "بالسرايا" هم من المتزوجين وأن (25.8%) منهم لديهم أبناء، لاتضح لدينا شدة الجاذبية التي يمثلها مشروع السرايا، رغم عبء الواجبات العائلية معنوياً ومادياً لدى ثلث البنية البشرية للسرايا.
أما مؤشرات توزع عناصر السرايا بحسب مستوياتهم العلمية فسيظهر أن استقطاب السرايا يتوزع على مختلف شرائح المجتمع اللبناني بلحاظ المستوى العلمي، لكنه يتركز بصورة رئيسية في المجال الطلابي أو الذين هم حديثو عهد بترك مقاعد الدارسة (35.7% يحملون شهادات ثانوية)، كما أن السرايا نجحت في استقطاب كتلة تعتبر مرتفعة نسبياً من أصحاب الاختصاصات العليا ( 5,9%) ، وبالمحصلة فإن مؤشرات الوضع الاجتماعي لمقاومي "السرايا" يخلو بصورة عامة من المفارقاتـ التي يعكسها عادة ارتفاع أو انخفاض حاد في بعض المتغيرات، ما يدل على غياب تمركزات أو ضمورات اختلالية في التوزع الاجتماعي، ويؤشر على وجود بنية بشرية غير مشوهة اجتماعياً، وتمتلك عناصر التوازن على نحو اجمالي .
ثانياً : على المستوى السياسي :
ينطوي الانتماء الحزبي لعناصر السرايا على أهم دلالات البعد السياسي للبنية البشرية "للسرايا " وتليه دلالات الانتماء الطائفي والمناطقي، رغم كون هذين الاخيرين هما متغيران اجتماعيان وليسا سياسيين .
من حيث الانتماء الحزبي تشير الجداول إلى أن نسبة الحزبيين السابقين بين عناصر السرايا تبلغ (51%) ، بينما تبلغ نسبة اللذين لا زالوا يمارسون انتماءهم الحزبي ( 6.8%) ، أي أن نسبة من لا يملكون تجارب حزبية وربما سياسية بالمعنى المباشر للكلمة ، تبلغ ( 42.2%) ، واذا كانت نسبة الحزبيين السابقين المرتفعة مبررة تماما ، ذلك أن هذه الشريحة من الناس هي عادة الاكثر اقبالاً على القضايا العامة وامتلاكاً للاهتمامات الوطنية بحكم التعبئة السياسية التي نشأت عليها، فإن ذلك يشير بدوره إلى أن انسداد نوافذ المقاومة وعدم توفير القنوات الملائمة لممارسة الواجب الوطني بفعالية ميدانية في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لدى هذه الاحزاب هو ليس نتيجة فقط لآزمة هذه الاحزاب بل هو سبب أيضاً، وبالتالي فإن الاستجابة العالية والسريعة للحزبيين السابقين للانخراط في اطار مقاوم حيادي تكشف توق الاتجاهات القاعدية لدى الاحزاب لاعادة ترتيب بنيتها وفق اولوية المقاومة .
أما نسبة غير الحزبيين (42.2%) وهي نسبة معتدلة ، قياساً للحزبيين السابقين والحاليين، فهي تكشف بدورها أن العداء لاسرائيل في الاوساط اللبنانية ليس قضية سياسية ترتبط بنخب تمارس السياسة وتتعاطى الشأن العام. بل هو من مقومات الانتماء الوطني وحالة صميمة راسخة، وهي تتجاوز مستوى التجاوب العاطفي إلى الاستجابة العملية لترجمة هذا العداء .
وهذا ما يفسر بدوره توازن التوزع الطائفي لدى عناصر "السرايا". مع ملاحظة ضمور نسبي على المستوى المسيحي اذا ما درسناه بالمقارنة مع النسب المطلقة للتوزع الطائفي اللبناني، إلا أن نسبة المشاركة المسيحية نفسها تبدو مرتفعة اذا قاربنا الموضوع من زاوية الخصوصيات المسيحية وتعدد الاشكاليات التي احاطت بهذه الساحة، وستبدو هذه النسبة مرتفعة جداً بلحاظ خصوصيات السرايا نفسها وظروف نشأتها ومسارات عملها .
ومن ناحية ثانية .. يظهر أن ارتفاع نسبة الاقبال السني والدرزي على الانخراط في "السرايا" تعود إلى توفر واقع تعبوي عدائي لاسرائيل في هذين الوسطين لكنهما يفتقدان إلى الاطر المنظمة لممارسة هذا العداء.. في حين يشكل توفر هذه الاطر على المستوى الشيعي سبباً مباشراً وواضحاً لتراجع نسبة الاقبال الشيعي على "السرايا اللبنانية" .
يبقى أن نسب التوزيع المناطقي لعناصر السرايا، لا تحمل دلالات خاصة سوى انها تعكس إلى حد ما صورة التوزع الطائفي، وتبين أن القواعد المناطقية للسرايا هي مدينية – ريفية على حد سواء . مع تركز حضور نسبي في العاصمة، يبدو لافتاً ومهماً ، ما يدل على حضور مضاعف لقضية الصراع مع اسرائيل في صميم الجغرافيا البشرية والسياسية اللبنانية التي تمثلها العاصمة .
* * *
يقول المشرفون على عمل السرايا إن الايام ستكشف ما يتلمسونه هم يومياً، إن المجتمع اللبناني بخير وهو مجتمع قطع شوطاً بعيداً في عدائه للكيان الغاصب. وما تجربة السرايا اللبنانية لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي الا خير دليل على ذلك.. إن أعداد الذين اقبلوا للانخراط في السرايا يتجاوز المئات، لكنهم ينتظرون دورهم الذي لم يحن بعد ، وإن أعداد الذين اقاموا اتصالاً مع السرايا ولم يبت بأمرهم بعد .. يتجاوز المئات بدوره.. وإن كثيراً من مقاتلي السرايا، يهدف تأهيلهم إلى ضبط اندفاعهم الداخلي وتنظيمه، بدل العمل على حثهم ورفع همتهم وصنع الاحساس بالمسؤولية الوطنية لديهم .. لانهم باختصار مواطنون حقيقيون وجاهزون .
لقد استنزف المشرفون على السرايا اللبنانية وقتاً ثميناً قبيل إحدى العمليات لإقناع مقاتل أن مجريات هذه العملية لا تحتمل زرع علم على إحدى دشم العدو.. إلا أنه لم يكن من السهل ابداً اقناعه بذلك ، فقد كان يحلم دوماً بأن يرى العلم اللبناني يرفرف على ربوع الجنوب والبقاع الغربي المحتلين.
(*) دراسة منشورة في 22/11/1999
الأنتقاد