وكالة المخابرات المركزية أو ما يعرف بـ ( CIA ) اختصارا لـ Central Intelligence's Agency ولقد برزت الوكالة إلى الوجود عام 1947م لأول مرة في التاريخ الأميركي تم ظلت وكالة مخابرات تعمل في زمن السلم والحرب . اعترافا وإقرار رسميا بأنها سلاح ضروري لتقديم الخدمات الاستخبارية للدولة في عالم غير مستقر وعرضة للتقلبات السياسية .
" جاء تكوين الوكالة في أعقاب موت مكتب الخدمات الاستراتيجية ، وهو جهاز المخابرات والجاسوسية في زمن الحرب العالمية الثانية ، والذي كان يعمل تحت القيادة الديناميكية للسيد ويليام دونو نوفان وبعد تفكيك المكتب تم استيعاب وظائفه في وزارتي الخارجية والدولة الأميركية ، وذلك قبل عام تقريبا من إعلان دونوفان لمعتقداته الخاصة بحاجة البلاد لجهاز خدمات للمخابرات المركزية ، تعمل في فترة ما بعد الحرب "، وتشير المراجع إلى أن دونو نوفان اقترح بأن تقدم وتنتج المخابرات تقارير التجسس بأساليب علنية وأخرى خفية وتقدم في نفس الوقت النصح والإرشاد ، وتحدد أهداف المخابرات على المستوى الوطني والقومي ، ثم توحد الارتباطات بين المواد الاستخباراتية التي تقدمها كافة الوكالات التابعة للدولة عن المخابرات .
" واقترح دونو نوفان أيضا أن يكون للوكالة سلطة القيام بإجراء عمليات تخريبية في الخارج "، ويبدو أن تاريخ المخابرات المركزية الحديث يؤكد أن الحكومة الأميركية قد عملت بهذه المقترحات ، وخاصة القيام بعمليات تخريبية في العالم .
" وبناء على هذه المقترحات اصدر هنرى ترومان توجيها رئاسيا في 22 يناير 1946 بتأسيس هيئة المخابرات القومية التي تكونت من وزراء الخارجية ، والحرب والبحرية وممثل عن الرئيس وهو الأميرال ويليام ليهي " ، وتحت بنود قانون الأمن القومي لعام 1947 ، والذي أصبـح نافـذا يوم 18 سبتمبر 1947 تم تأسيس مجلس الأمن القومي ، ووكالة المخابـرات المركزية، وكان " لاري هيوستن " الذي خدم لسنوات عديدة مستشارا عاما لوكالة المخابرات ومساعده الأول جون واريز كانا الضابطين الأساسييين المعنيين عن صياغة التشريع الخاص بوكالة المخابرات المركزية الجديدة .
وفي عام 1947 صدر القانون الخاص بالأمن القومي ، والذي كلف وكالة المخابرات المركزية بتنسيق أنشطة المخابرات المتفرقة في البلاد ، وإيجاد أوجه الارتباط بينها ، وتقيم ونشر وبث التقارير الاستخبارتية في أروقة الحكم ، خاصة تلك التي تؤثر على الأمن القومي .
وتجدر الإشارة هنا أن تعيين مدير ونائب مدير المخابرات المركزية يتم من قبل رئيس الولايات المتحدة الأميركية شخصيا ، وهذا التعيين يخضع لقبول شكلي من الكونغرس الذي لم يرفض على امتداد السنوات السابقة تعيين أي مدير أو نائب مدير لوكالة المخابرات المركزية، ويرجع هذا إلى التعديل الدستوري الصادر من 14 أبريل 1953 حيث تم تخويل الرئيس اختيار مدير ونائب مدير المخابرات سواء من المدنيين أو العسكريين العاملين في الخدمة ، أو المحالين على التقاعد .
وحتى تتمكن وكالة المخابرات المركزية من حماية مصادرها وأساليبها المتبعة في جمع المعلومات ، بحيث لا يتم كشفها ، أعفى قانون صدر في عام 1949 الوكالة من وجوب كشف تنظيم أو أسماء المسؤولين أو الألقاب أو الرتب أو المرتبات والأجور الخاصة بالعاملين والموظفين في الوكالة ، وكذلك أعدادهم وقد حازت الوكالة على مزيد من النفوذ في عهد الجنرال وولتر يبدل سميث الذي تم تنصيبه في عام 1950 ، أما في خصوص جمع المعلومات وإعداد التقارير فإن الوكالة بها خبراء يقومون بتحليل التقارير الواردة إليهم من المصادر تحليلا تاما ، ثم تقييمها تقييما شاملا من جانب كبار الخبراء على مدار 24 ساعة يوميا ، وبمعدل سبعة أيام أسبوعيا .
وترى مارجوري كلاين أنه " بحلول عام 1953 تضاعفت القوة الشخصية والذاتية لوكالة المخابرات المركزية من مجرد مئات قليلة إلى ما يزيد عن 10 ألف مرة ، وفي غضون ثلاث سنوات حاول وولتر سميث إدخال تغيرات دورية على الجهاز ، ونجح حتى يتمكن من أن يصبح جهازا فعالا في حقل المخابرات السرية ".
غير أنه في عام 1975 الغي القانون الذي يعفي من نشر هياكل وتنظيم وكالة المخابرات المركزية ، حيث بدأ الكونغرس والجهاز في نشر علانية ، وللعامة ، وبصورة رسمية الأساس التنظيمي لوكالة المخابرات وتراكيب هياكلها الفرعية .
وبنشر مجموعة من الكتب رسما توضيحيا لهيكلية المخابرات المركزية الأميركية في وقتها الحالي ، وبالنظر إلى هذه الهيكلية يتضح مدى اعتماد القيادة الأميركية على هذه الوكالة في القيام بمهامه تتعدى تقديم المعلومات والتقارير إلى القيام بما يعرف بالنشاط الخفي .
مدير المخابرات المركزية
مجلس المخابرات القومية إدارة المخابرات المركزية مدير العاملين بالمخابرات الداخلية
الاستشارات العامة المدير التنفيذي
المفتش العام مكتب الشئون العامة مراقب النفقات
مكتب الاتصالات التشريعية
نائب المدير للعمليات نائب المدير للعلوم والتكنولوجيا نائب مدير المخابرات نائب المدير للشئون الإدارية
مكتب البحوث والتنمية مكتب التحليلات السوفياتية
مكتب البحوث العلمية والتسليحية
مكتب التطوير والهندسة الأوروبية
مكتب القضايا العالمية
جهاز الإذاعة الخارجية للمعلومات الشرق الأدنى وجنوب آسيا
مكتب التحليلات
شرق آسيا
مكتب الإنتاج والدعم التحليلي
مكتب الخدمات الفنية أفريقيا وأميركا اللاتينية
المكتب المرجعي المركزي
المركز القومي لتفسير الصور الفوتوغرافية
فنجد أن وجود وكالة المخابرات المركزية كأداة أساسية في كوكبة المخابرات الأميركية لا يلغى دورها الرئيسي باعتباره البوثقة التي تصب فيها كل أجهزة وإدارات المخابرات في الولايات المتحدة . إن النظر إلى هذه الهيكلية يفصح بما لا يدع مجال للشك أن وكالة المخابرات المركزية تتعدى مجال المخابرات وجمع البيانات إلى أخطر من ذلك ، فهل يمكن أن يتركز نشاط كل هذه الإدارات والمكاتب والمختبرات على تجميع البيانات وتقديم التقارير والمعلومات ، لا شك أن الإجابة المقنعة وأكيدة على هذا التساؤل في هذه الوكالة تحمل كل الأخطار المحدقة بالإنسانية وكل المآسي الإنسانية .
ونظراً الى كوكبة المخابرات أو مجمع المخابرات الأميركية ، نرى انه كيف يصب كله في إناء واحد ، وهو وكالة المخابرات المركزية ، الأمر الذي يعني أن كل ما هو استخباراتي يجب أن يذهب إلى هذه الوكالة ذات السمعة السيئة عالمية .
لاشك أن الجزء القادم سوف يشير إلى المهام الخطيرة التي قامت بها كل هذه الوكالة في إقلاق راحة الإنسانية ، ودفعها للعيش في حالة حرب وقلق وصراع ، ولكن أين يقع مبنى وكالة المخابرات ، وما هي مواصفات بناء الموقع الذي تخرج منه كل الجرائم والعمليات الإرهابية .
أولا : مبنى وكالة المخابرات المركزية :
يقع مبنى وكالة المخابرات المركزية على بعد 8 أميال من وسط المدينة العاصمة واشنطن D.C ، وقد اختار أرض المبنى الذي تشغله حاليا وكالة المخابرات المدير السابق لها الين دالاس 1953-1961 ، أما المبنى فقد تم بناؤه على هيئة الحرم الجامعي ، أو حرم إحدى الكليات الجامعية . فقد تم تصميمه في أواسط الخمسينات بإشراف شركة هاريسون وابد اموفينر التي تتخذ من نيويورك مقرا لها ، وهي نفس الشركة التي صممت مبنى الأمم المتحدة .
وفي أكتوبر 1957 تم البدء في تشييد المقر الجديد للوكالة ، وكان الرئيس إيزنهاور هو الذي وضع حجر الأساس للمبنى في نوفمبر 1959 ، وتم تشييد المبنى والانتهاء منه 1969م ، وقد افتتح المقر الحالي في عهد الرئيس ترومان ، ويتكون المبنى من مليون متر مربع ، وحيثما تقيس المساحة الكلية للمقر نجد أن المبنى والأرض المحيطة به تبلغ 219 فدان ، وقد وضع الرواق الرئيسي والردهة من الخرسانة المقاومة للقصف والقنابل ، وقد جلب رخام المقدمة من ولاية جورجيا الأميركية.
لقد كان القصد من إعطاء لمحة عن مبنى الوكالة له سببان في نظر الباحث : الأول هو محاولة رسم هالة طقوسية بإضافة الشكل الجامعي بكل ما يحمله من معاني عن المبنى ، ومحاولة إعطاء صورة على أن الوكالة تقتصر في أعمالها كمؤسسة علمية تصدر عنها التقارير والأبحاث والدراسات ، والسبب الثاني وهو الأهم أن الإدارة الأميركية حاولت بوضع هذا الشكل لوكالة إعطاء هالة أكبر لوكالة المخابرات الأميركية ، وأنها القدر الموجود في كل مكان ، وأن لها من الإمكانيات ما لا يستطيع معه أي معارض لسياسة الأميركية الصمود أمام هذه القوة الخارقة ، ولكن ما هي مهام وكالة المخابرات المركزية الأميركية ؟
ثانيا مهام وكالة المخابرات المركزية :
لقد عمدت الإدارة الأميركية منذ أن أنشئت وكالة المخابرات أن تحصر مهمة الوكالة في تنسيق الأنشطة المخابراتية الخاصة بشتى الإدارات الحكومية والوكالات ، من أجل صالح الأمن القومي الأميركي ، وهذه المهام يمكن إيجازها في:
1- إسداء النصح لمجلس الأمن القومي فيما يتعلق بأنشطة المخابرات ، التي تقوم بها الإدارات والوكالات المختصة من أجل الأمن القومي .
2- تقديم التوصيات إلى مجلس الأمن القومي ، من أجل تنسيق مثل هذه الأنشطة الاستخباراتية الحكومية .
3- القيام بتصميم وإيجاد الروابط بين البيانات ، ونشر المعلومات السرية التي تتعلق بالأمن القومي ، مع اتخاذ الاحتياطات المحددة باستمرار الإدارات والوكالات المختصة في جمع وتقييم وإيجاد الروابط بين البيانات ، ونشر المعلومات السرية .
4- أداء الخدمات ذات الصالح العام ، لأجل الوكالات المخابراتية القائمة بالفعل ، وهي التي يقدر مجلس الأمن القومي ، أن إجراؤها على المستوى المركزي سيكون أفضل .
5- القيام بالوظائف الأخرى المتعلقة بالمخابرات المؤثرة على الأمن القومي حسبما يقرر مجلس الأمن القومي من حين لآخر .
إن النظر إلى هذه المهام بشكلها المطلق يعطي انطباعا وهو أن هذه الوكالة لم تقترف في حق الإنسانية أي جرائم تذكر ، ولكن بعض الإشارات تكفي لكي تدل على ما هي مهام وكالة المخابرات ، لقد تركز جل مهام وكالة المخابرات المركزية على محاربة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة ، أضف إلى ذلك عمليات الاغتيال للقادة المناهضين لسياسة الولايات المتحدة أمثال سلفادور للنيدي في تشيلي ، ودعمت الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، وأطاحة بالحكومة الثورية في نيكاراغوا ، وخططت مرات عديدة لاغتيال كاسترو ، وأنتجت من مختبراتها أمراض الإيدز ، والأسلحة الجرثومية ، فهذه هي المهام الرئيسية التي تعمل وكالة المخابرات المركزية على تنفيذها ، أما ما سبق ذكره في كتاب مارجوري كلاين ، فإنه لا يعد إلا مجرد مهام صورية تقدم لعالم رغم معرفة المجتمع الدولي لحقيقة هذه الوكالة .
ولكن ما يهمنا بعد هذه المقدمة الموجزة عن وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي يمكن إن جاز القول أن تعتبر سلطة أخرى تضاف إلى الهيكل السياسي في الولايات المتحدة في تعاملها مع العالم .
كيف تؤثر هذه المؤسسة الأمنية على وسائل الإعلام وخصوصا الصحافة الأميركية ؟
ثالثا : المخابرات المركزية والصحافة الأميركية :
يشير الدكتور جاب الله موسى إلى أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية " كانت مسؤولة وخاصة في الستينات على الدعاية الدولية للولايات المتحدة عن طريق مكاتبها في الخارج ، وقد أنفقت حين ذلك حوالي 1.7 بليون دولار على بحوث الاتصال ، وقد خصصت 20% من هذا المبلغ لتسيير وتشغيل مكاتبها التابعة للوكالة في واشنطن ".
ويرى أيضا أن من الأهداف التي سعت إليها الوكالة من خلال هذه البحوث :
1- إعداد التقارير عن الاتجاهات والدوافع لدى الشعوب الأخرى التي يرغب في مخاطبتها، والاتصال بها الأمر الذي يساعد الوكالة على رسم صورة واضحة المعالم لتلك الشعوب وكيف يمكن التأثير في سياستها بطريقة تلائم متطلبات سياسة الهيمنة .
2- تحليل الاهتمامات الجارية لهذه الشعوب ، والهدف من وراء ذلك معرفة إمكانيات التأثير على هذه الاهتمامات ، بشكل يخدم سياسات الولايات المتحدة ، كما حدث في نيكاراغوا وغرينادا .
3- تحديد العناصر القيادية داخل هذه المجتمعات وذلك للوقف على إمكانيات استخدام هذه القيادات سواء الطلابية أو النقابية أو العسكرية كبديل يخدم السياسة الأميركية ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها ارنستو بنتوشيه في تشيلي .
4- الوصول إلى أفضل الطرق التي يمكن اتباعها لمخاطبة تلك الشعوب .
5- قياس تأثير برامج الوكالة وتقنينها على الشعوب ، وذلك من خلال التقارير التي تعدها مصادر الوكالة لمعرفة مدى نجاح الوكالة في خطتها الإعلامية والسياسية في التأثير على شعوب أي منطقة .
6- تحليل الدعاية الأخرى وإصدار النشرات الإعلانية عن الوكالة ذاتها ، غير أن تحليل هذه الدعاية لا يخلو من تكنيك خدمة المصلحة ، وتحويل الأنظار الذي يعمل على تحويل الدعاية السياسية إلى هدف لتحطيم أي سياسة مخالفة لتوجهات الولايات المتحدة . فعندما تقدم التقارير عن خريج أو قائد وطني بأنه دكتاتور ، فإن آلية الدعاية لا تقف عن رسم هذه الصورة ، الأمر الذي يجعل مجرد ذكر اسم ذلك الزعيم أو المناضل يقترن بالإرهاب أو بالدكتاتورية .
ولكن يمكن تقييم نشاطات الوكالة في أنها تخدم الاتجاهات السياسية الخارجية للولايات المتحدة الأميركية .
ويشير موسى السيد إلى حجم الهيمنة التي تفرضها وكالات المخابرات الأميركية على الساحة الإعلامية العالمية ، ويقدم لنا أرقام مذهلة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه بإمكان وكالة المخابرات إحداث انقلاب في دولة بدون استخدام الجيوش ، بل يكفي تسخير وسائل الإعلام التي لديها لإحداث زعزعة داخلية لهذه الدولة ، فيقول " تمتلك وزارة الدفاع الأميركية 24 مليون ميل من نظام الاتصالات الأميركي ، وللقوات البحرية الأميركية وحدها علاقات منتظمة مع 600 محطة تلفزيونية 5000 محطة إذاعية . ويملك البنتاغون 250 محطة إذاعية في شتى أنحاء العالم، ويصدر ما يقرب من 1000 صحيفة و 400 مجلة وعدد 12 مليون نسخة سنويا من النشرات المختلفة في العالم . ويؤكد حسن الزين أنه في عام 1986 بلغ عمر الدائرة الأميركية المعروفة بـ " وكالة أنباء الولايات المتحدة UIAS 33 عاما ، وفي ولاية ريغان الثانية جرت إعادة تنظيم هذه الدائرة الدعائية الحكومية بتأسيس مقسم للبث التلفازي من أجل الدعاية الخارجية، ولدى هذا الاحتكار كما يشير الزين 214 ممثلية في 29 بلدا تزود الدائرة المذكورة بالمواد الإعلامية ، كل يوم حوالي 10 آلاف صحيفة 5000 محطة إذاعية . وتنفق على الدعاية الخارجية مبلغ 5 مليارات دولار سنويا . وفي عهد ريغان أيضا مدير الوكالة الحكومية عضو في مجلس الأمن القومي الأميركي ، وتخضع هذه الوكالة لمحاسبة لجنة فرعية تابعة للكونغرس مختصة بالإعلام الخارجي.
وهذا يبين أن أغلب وسائل الإعلام الموجودة في العالم الآن ، لا تخلو بالنظر إلى هذا الدعم الهائل من المخابرات الأميركية من وجود دعم مباشر أو غير مباشر ، يقدم لهذه الوسائل الإعلامية الأمر الذي يجعلنا نشكك في موضوعيتها والتزامها بأخلاقيات العمل الإعلامي، فالقاعدة الإعلامية المعروفة تقول " من يملك يوجه . " فالحكومة الأميركية تملك أكثر من نصف الخارطة الإعلامية ، وبإمكانها تحريك هذه الآلة في الاتجاه الذي يلائم سياستها الخارجية .
ولم يخف مساعد مدير الوكالة الأميركية للأنباء أهداف الوكالة ، عندما قال أمام اللجنة التابعة للكونغرس : " إن رسالة الوكالة الإعلامية هي السعي لتحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية في الخارج ".
وتعرف هذه الوكالة باسم " مكتب الاستعلامات الأميركية " ، تقوم سفارات الولايات المتحدة في جميع دول العالم بإصدار نشرات إعلامية ، بالاتفاق مع وزارة الخارجية، ووكالة المخابرات المركزية ، وتقوم الوكالة بإصدار وتمويل عشرات المجلات والصحف في أكثر من 20 دولة .
وفي جانب هام من جوانب العمل الإعلامي للولايات المتحدة الأميركية في الخارج ، ومن مجموع فروع أجهزة الإعلام ، تتكون إمبراطورية مترامية الأطراف ، تخدم على مدار الساعة استراتيجيات واشنطن ، حيث تحتكر وكالة المخابرات المركزية محطات خاصة في 20 بلدا في أميركا اللاتينية ، " تشارك الوكالة مع شركات محلية في 656 محطة إذاعية من أصل 707 تدار من قبل ثلاث مؤسسات في المكسيك ، وتسيطر شركة واحدة على اربع قنوات تلفزيونية من أصل ست قنوات في مكسيكو سيتي . وفي كولومبيا تمتلك اربع مؤسسات 231 إذاعة من أصل 386 أما التلفزيون فتسيطر عليه ثلاث مؤسسات فقط " .
إن هذه السيطرة المباشرة وغير المباشرة لوكالة المخابرات المركزية لاشك في أنها تجعلها المحرك الرئيسي لإعلام العالمي ، وقد استغلت الإدارة الأميركية هذا المجال استغلالا حسنا حيث عملت إذاعة صوت أميركا على مواجهة الخطر الشيوعي ، وكشف كل ما يدور في الاتحاد السوفياتي ، وخاطبت المجتمع الشيوعي بمواد وبرامج معدة سلفا من المخابرات المركزية ، جعل الكثير من الجماهير في داخل الاتحاد السوفياتي يضع علامة استفهام على هذا النظام ، وسياسته ، فانهيار الاتحاد السوفيتي يمكن إرجاع أحد أسبابه إلى استخدام الآلة الإعلامية من قبل الولايات المتحدة ضده من خلال بث رسائل إعلامية ، تحدث الشك في هذا النظام لدى الجماهير في الاتحاد السوفيتي .
ويرى الصحفي الأميركي بوب ورودار " أنه في جانب العمليات المغطاة أو ما يطلق عليها أحيانا اسم الأعمال القذرة ، والخاصة بجمع المعلومات وتحليلها ، نجد أن وكالة المخابرات المركزية تستخدم وسائل الإعلام من صحف ومجلات ودور نشر وشركات إنتاج سينمائي وتلفزيوني ، وهو مجال مهم لدى وكالة المخابرات المركزية ".
وفي أواخر السبعينات تم تكليف لجنة فرعية بالكونغرس الأميركي برئاسة النائب ادوارد بولاند بالتحقيق في الدور الذي لعبته وكالة المخابرات المركزية في التضليل والتلاعب بالأنباء والأخبار الصحفية والإعلام والدعاية السوداء ، وخاصة في بلدان العالم الثالث وقد كشفت تلك التحقيقات حقائق مثيرة للاهتمام منها :
1- أن العديد من مراسلي الصحف الأميركية في الخارج هم إما عملاء مأجورون لوكالة المخابرات ، أو مجرد أدوات لها ، حيث يقدمون لرجال المخابرات في عواصم بلدان العالم الثالث معلومات دقيقة ومفيدة جدا ، ولهذا السبب فإن العديد من الصحف ووكالات الأنباء الأميركية بما فيها الصحف الكبرى مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست كانت موضع اتهام ، بأنها تضم أعدادا كبيرة من عملاء المخابرات المركزية ، وأن كاتبا كبيرا من نيويورك تايمز سيروس سواز برجر قد نشر مقالا من أعداد المخابرات المركزية ، ورد الصحفي على ذلك قائلا إنه من الطبيعي أن يكون للصحفي أميركي يعمل في الخارج علاقات مع رجال المخابرات .
2- أن وكالة المخابرات تمول أو تسيطر على العديد من الصحف ووكالات الأنباء التي تحتفظ بمراسلين في الخارج ، ويقدر عدد الصحف والمجلات ووكالات الأنباء التي تملكها الوكالة بصورة كلية أو جزئية 200 صحيفة ومجلة .
3- خلال السنوات الماضية اتضح أن أكثر من عشرة من كبار مسؤولين في وكالة المخابرات المركزية ، قد عملوا لفترة من الوقت تحت ستار أنهم مراسلون خارجيون للعديد من الصحف ووكالات الأنباء الأميركية ، وغالبا ما يتم ذلك بموافقة رؤساء ومديري التحرير في الصحف .
4- ذكر أحد مسئولي وكالة المخابرات المركزية أنه كثيرا ما كان على صلة بعملاء يعملون في المكاتب الخارجية لوكالة أنباء يونايتد برس ، واسيوشيد برس الأميركيتين ، وأنه كان يزودهم بأخبار مفبركة بالكامل ، وكانوا ينجحون في دسها بين الأخبار العادية التي تذيعها الوكالتان .
5- إن الجهود التي كانت تبذلها وكالة المخابرات المركزية للتضليل والتلاعب الإعلامي، كانت تصل في بعض الأحيان إلى حد خداع الدبلوماسيين الأميركيين أنفسهم ، غير أن السفارات الأميركية تتلقى تحذيرا ، لتوخي الحذر من الدعاية السوداء التي يروجها عملاء وكالة المخابرات الأميركية في الخارج .
6- أكد وليم كوليمي المدير السابق لوكالة المخابرات أن الوكالة كانت تستخدم الصحفيين الأميركيين المحليين ، وكثيرا ما كانت أندية الصحافة ونقابات واتحادات الصحفيين المنتشرة في العالم تستخدم كأماكن للقاء جمع المعلومات ، وفي مانيلا ومكسيكو سيتي كان رئيس نادي الصحافة في كل منها عميلا للوكالة .
7- أقر ثلاثة سفراء أميركيين كانوا يمثلون بلادهم في أفريقيا ، بأن وكالة المخابرات كانت تحيطهم علما بالأخبار المفبركة ، التي تنشر في الصحف المحلية، ففي أنجولا تحدث جول ستوكويل الذي عمل في الوكالة لمدة اثنتي عشرة سنة حتى وصل إلى رئاسة فريق العمل الخاص بأنجولا ، ثم ألف كتابا يحمل اسم البحث عن أعداء 1978 ، حيث تحدث عن الأساليب الإعلامية التي كان يلجأ إليها بحشد التأييد لجبهتي فنلا ويونيتا التي كانت تمولهم المخابرات المركزية ، فيقول أن خبراء الدعاية في الوكالة كانوا يقومون بتأليف الأخبار مفبركة ، أخبار معينة وتسريبها إلى الصحف المحلية في العاصمة الزائيرية كينشاسا ، وعندئذ تقوم بعض الصحف الأوروبية بنقل هذه الأخبار عن صحف كينشاسا ، على أنها حقائق ليصبح ممكنا بعد ذلك أن تنقلها وكالات الأنباء الكبرى إلى العالم ".
وهي تفسر الطريقة التي أشار إليها دونالدكودارد في كتابه في قبضة الأخطبوط فيقول : " أرسلت وكالة المخابرات المركزية إلى عميلها توني أسمر قائد شبكة التجسس في لبنان شريطا يحتوي على معلومات تتعلق بعملية إيران - جيث ، فحول هذا العميل المعلومات إلى صحيفة الشراع ، وهي مجلة إخبارية تصدر في بيروت بالعربية ، موالية لسوريا بتاريخ 23/9/1986، وعندما نشر تفصيل صفقة بيع الأسلحة إلى إيران مقابل الرهائن ، نقلت وسائل الإعلام الغربية الخبر ، فأحدث فضيحة عالمية أضطر الرئيس ريغان من شدة الحرج الذي نتج عنها إلى فصل أوليفر نورث من منصبه ، كما قبل استقالة الأدميرال جون بند كسير خليفة ماكفرلين من منصب المستشار في الأمن القومي ".
ويؤكد ليدل هارث على أن الصحف الكبرى في الولايات المتحدة درجت على سياسات إصدار طبعات خاصة بالدول العربية ، وذلك بالاتفاق مع مكتب الاستعلامات الأميركية ، وعن طريق هذه الطبعات تعرض وجهة النظر الأميركية ، وهي وجهة نظر أميركية بحثة يعدها متخصصون في السياسة الأميركية حتى تنفذ هذه البدعة إلى عقول العرب ومن ثمة ينحازون القراء إلى صف السياسة الأميركية ضد معارضتها.
وفي هذا الإطار أفشى مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة سرا ، مفاده أن وكالة المخابرات المركزية قد دفعت أموالا طائلة للصحافة التشيلية لتعارض اللندي ، كما أن لجنة البرلمان أكدت أن نسبة 29% على الأقل من النشاط السري للوكالة عبر السنين ، كانت على مشاريع الدعاية ووسائل الإعلام ، وبذلك نجحت المخابرات الأميركية في إحداث انقلاب داخل تشيلي ، بدعم بينوشيه ، واغتيال سلفادور اللندي ، وأكدت صحيفة واشنطن شارينو أنه في عام 1973 كان هناك 40 مراسلا متفرغا وصحفيا ، يتلقون رواتب من وكالة المخابرات المركزية، ومن الأمثلة على انخراط رجال الصحافة في المخابرات الأميركية ، أنه مثيل عملية غزو الوكالة المسلح إلى غويتمالا في عام 1954.
وتجدر الإشارة أن صحفيا استقال من منصبه في صحيفة التايمز ، لاشتراكه في عمليات الوكالة شبه العسكرية في تلك البلاد ، وكانت مجلة التايم منذ أيام هنري لويس وآلن والس على علاقات دقيقة مع الوكالة . قال مدير وكالة المخابرات الأميركية للشؤون العملية والتنمية السابقة كارل وآليت : " إن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت في عام 1960 على علم أن إسرائيل طورت سلاحا نوويا ويقول كارل : طلب مني مدير وكالة المخابرات عدم نشر هذا الخبر في الصحافة ، ودفعت الوكالة لنفي صحة هذه المعلومات ".
إن هذا التواطؤ بين المخابرات الأميركية وإسرائيل ليس الأول من نوعه ، أو أنه الحدث الوحيد بل إن حالات كثيرة تبين أن التعاون لا محدود بين الموساد و CIA في مجال الاستخبارات وتبادل المعلومات .
ومن الممارسات الآخذة في الشيوع هي استخدام المخابرات الأميركية الصحافة الأميركية للتأثير على القرارات داخل الدول الأخرى .
فعندما نفت حكومة كول في المانيا بأن الشركات الألمانية كانت تساعد القذافي في بناء مصنع للأسلحة الكيميائية في الرابطة على بعد خمسين ميلا من طرابلس ، قامت المخابرات الأميركية بتسريب أدلتها المستقاة من الاستطلاعات الفضائية - التجسس بالقمر الصناعي - إلى وسائل الإعلام الأميركية ، هذا الأمر حدا بالمجلة " شنيرن " إلى القيام بتحقيق صحفي حول الموضوع ، وأجبرت الحكومة الألمانية على الادعاء بأن مصنع الرابطة يصنع الأسلحة الكيميائية.
وهذه ليست المرة الأولى التي أجبرت فيها الحكومة الأميركية الصحافة الأميركية على شن هجوم على طرابلس بتقديم معلومات مفبركة ، الغاية منها : تأليب الرأي العام العالمي ضد القذافي .
ففي أواخر نوفمبر 1986 صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يدين بحزم قصف ليبيا في إبريل باعتباره انتهاكا للقانون الدولي ، والقرار الذي قدمته 27 دولة دعا الولايات المتحدة إلى الامتناع عن استعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة ضد ليبيا ، وإعطاء ليبيا حقا في التعويضات على الخسائر التي تعرضت لها وبعد صدور هذا القرار اتضح أن الإعلام الأميركي والشعب الأميركي قد تعرض لحملة تضليل ، تهدف إلى خداعهم ، وذلك لإيهام القذافي بأنها ستقوم بمزيد من الأعمال العسكرية ضده ، وقد ذكرت صحيفة الواشنطن بوست أن إدارة ريغان دخلت في حرب أعصاب مع القذافي ، على أمل تخويفه ودفعه إلى رد فعل غير عقلاني".
وكانت هذه الخطة حصيلة اجتماعات بين وزير الخارجية جورج شولتز ومدير وكالة المخابرات المركزية وليام كايس في أواخر يوليو ، دعت الخطة التي تقوم الإدارة الأميركية بالدعاية لتجدد خطر الإرهاب الدولي من جانب القذافي ، وبالتالي تدبير الإطاحة به ، وتضمنت الخطة ضغوطا ذات طبيعة سياسية واقتصادية وعسكرية ونفسية. ويبدو أن الخطة كما يشير فرانيس بويل قد تغيرت عدة مرات ، وتم تعديلها أثناء اجتماعات ما يسمى مجموعة التخطيط المسبق للأمن القومي ، وهي هيئة فرعية لمجلس الأمن القومي ، ولحسن الحظ فقد تسربت الخطة إلى الصحافة بواسطة عناصر غير راضية على قيام عمل عسكري ضد ليبيا ، ومع ذلك وعلى الأقل في البداية قامت وسائل الإعلام الأميركية بالدعاية للخطر الحربي للحكومة ، الذي أدى إلى وجود دلائل إضافية على دعم ليبيا للإرهاب الدولي ، ولكن حالما تم الكشف عن اختلاق إدارة ريغان ومخابراته المركزية لحملة التضليل ضد القذافي ، بادرت الصحافة بسيل من الانتقادات ضد مديري تلك الحملة.
فالصحافة الأميركية لم تشرح للرأي العام الأميركي أن الإدارة الأميركية بكل مؤسساتها كانت متورطة في حملة تضليل منظمة ضد ليبيا والقذافي منذ عام 1981 ، والسبب حسب اعتقادي هو عدم رغبة وسائل الإعلام في الاعتراف بأنها خدعت ، وتم جرها إلى أن تكون شريكة غير واعية في خطط الإدارة للإطاحة بالقذافي طول خمس سنوات.
والصحيفة التي كشفت هذه الحملة هي الواشنطن بوست ، وقد نشرت في مقالاتها في 2/10/1986 مقالا عن مذكرات هذه الحملة تحت عنوان " القذافي هدف لخطة تضليل أميركية سرية " ، وتتضمن هذه المذكرات معلومات مضللة قدمتها وسائل الإعلام على أنها حقائق ، وقد حاول ريغان إعطاء مبرر لهذه الحملات ، بدافع إقلاق القذافي وإرباكه دون الأخذ في عين الاعتبار الرأي العام الأميركي والعالمي ، الذي بنا فكرة على القذافي بخطة مضللة وغير حقيقية". وهنا لابدمن الاشارة الى التضليل الذي مارسته وكالة المخابرات المركزية الأميركية ضد النظام السابق في العراق والذي ما زالت اثاره تتفاعل مع كل يوم يمضي . وكذلك التضليل المتعلق بالنضال الفلسطيني والصاق تهمة الارهاب بالمقاومين الفلسطينيين واتهام الرئيس الفلسطيني بمساندة الارهاب .
إن هذه الواقعة وغيرها تقدم لنا دليل التشكيك في مصداقية وسائل الإعلام الأميركي، خاصة عندما اكتشفنا الدور الكبير الذي تلعبه وكالة المخابرات المركزية في التلاعب بهذه الوسائل الإعلامية ، خدمة لمصالحها ، والسؤال الذي تطرحه اليوم ، هل يمكن الوثوق فيما تقدمه وسائل الإعلام ، سواء الأميركية أو الغربية ، بعد ما تعرفنا على اليد الطولى لمخابرات الأميركية فيها ؟
لا شك أن هذا السؤال يضعنا في مفترق طرق صعب ، لأن الإجابة عنه بنعم يدفع بنا إلى التصديق على كل ما تطرحه هذه الوسائل ، والإجابة بلا يعني أننا سوف نقف في شك أمام كل صحيفة عندما تقدم لنا موضوعا هاما ، فهل هذا الموضوع حقيقي أم إن بصمات المخابرات واضحة عليه ؟
ويكفي أن تعرف أن المعالجة الإخبارية في الصحافة الأميركية تتأثر بشكل كبير بالمخابرات المركزية ، أما عن طريق المعلومات أو الصحفيين .
*مجاهد صلاح
العالم