"زلّة" الحريري: يخرج من اللسان ما ... ؟؟!
بلغ التصعيد أوجه، فقد انزلقت البلاد الى حافة الحسم بعدما انزلق لسان رئيس الحكومة سعد الحريري عشية عيد الفطر بكلام لم يقدّر في حينه حجم التداعيات التي ستنجم عنه، وبالتحديد عليه وعلى فريقه السياسي، وهو الكلام الذي اطلقه حول شهود الزور في الوقت الذي كانت ماكيناته تعمل على نفي هذا الموضوع من اصله، عندما بدأوا بطرح قانونية شهادات هؤلاء وحلفهم اليمين امام المحكمة. لكن ما قاله الحريري كان، حتى غرقه في صمته الفاضح، بادرة أراد منها توجيه رسالة "غزل" الى سورية، بعد سحوره الدمشقي الذي اعقب احداث برج أبي حيدر مفادها تبرئتها والظهور بمظهر من اجرى مراجعة واسعة نتج منها ما اعلن عنه في صحيفة الشرق الأوسط عشية عيد الفطر.
ما يقوله العارفون بليلة الاعتراف الشهير، إن الحريري جمع الى بعض مستشاريه أصدقاء من الصحافيين في جلسة خيّمت عليها أجواء العيد "الاحتفالية"، وجرى الحديث عن ارتياح رئيس الحكومة لعلاقته مع الرئيس بشار الاسد، مبدياً رغبة في دفع هذه العلاقة الى الامام كجزء من استراتيجيته الجديدة، وصولاً الى تحصين موقع فريقه السياسي، مستعيداً بذلك ما كانت عليه الأمور قبل الـ2005، من حيث جعل دمشق حكماً بين اللبنانيين في صراعات لم يستطع الحريري تسجيل اي من النقاط فيها، كما لم يقدر على إجراء التوليفة المقنعة بين ما يريده ويعكس إرادة دولية في الشأن اللبناني وما يريده حزب الله، لا سيما في موضوع المحكمة الدولية التي تعتبر السيف المسلط المتبقي الوحيد على رقاب المعارضة وفي مقدمها المقاومة وسلاحها.
ما خرج به اجتماع المعايدة ما نشر بعده في أقرب الصحف الى الحريري وأدى الى ما أدى إليه، ما جعل رئيس الحكومة يمدد إجازته حتى تتبلور لديه سبل معالجة الأزمة الناشئة عن كلامه وإيجاد المخارج الملائمة لحفظ أصدقائه من شهود الزور أو إجراء جردة بمن يمكن أن يقدم منهم على مذبح ذلك التصريح وإبقاء من يجب إبقاؤه منهم اوراقا مستورة حتى يحين موعد كشفها أو بلورة صيغة معقولة تجمد بموجبها مفاعيل كل ما يتصل بالمحكمة دون أن يلغيها لأن قرار الإلغاء يعادل بالمنطق السياسي الخسارة التي لحقت بـ:"إسرائيل" عسكريا جراء حرب الـ 2006، إذا لم نقل إن إلغاء المحكمة سيكون بمثابة سقوط الورقة الأخيرة في هذه الحرب التي ما زالت مفتوحة تحت هذا العنوان.
لم يعد بإمكان الحريري التراجع وهو ملزم بترجمة ما صرح به، وإلا فهو سيؤكد كل الاتهامات التي وجهت إليه من قبل اللواء جميل السيد أو غيره من الجهات السياسية، في حين ان الجميع لن يرضوا بأقل من تقديم الشهود الى المحاكمة، وبذلك ايضا سيكون السقوط المدوي للمحكمة دون النظر الى بدائل من شأنها ان توصل الى حقيقة من اغتال رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريري.
مصادر سياسية واسعة الاطلاع تقول إن الاتصالات نشطت مرة اخرى من المملكة السعودية باتجاه سورية لاحتواء الازمة قبل عودة رئيس الحكومة الى بيروت وقد صار واجبا حضوره حيث تكثر التساؤلات حول هذا الغياب الذي طال كثيرا وسط أزمة حقيقية ليس من السهل تداركها، مشيرة الى ان هذا الغياب لا يمكن تفسيره إلا من قبيل الهروب من المسؤولية. وقد سربت بعض الاوساط المتابعة أن الحريري عبّر أمام الجانب السعودي عن رغبته في الاستقالة، في مواجهة الأوضاع القائمة، إلا أن ذلك لم يلق آذانا صاغية لدى السعوديين عدا عن أن الإقدام على هذا الأمر لن يوفر الحل المنشود، بل سيعطي فرصة للمعارضة كي تعيد انتاج السلطة بالشكل الذي تريده ودون تأمين الحد الأدنى من المشاركة.
الأوساط نفسها تقول إن سورية ما زالت ملتزمة بسقف اتفاقها مع السعودية حول الملف اللبناني وأن السعودية تحاول ألا تتجاوز سورية من خلال اتخاذ اي قرار منفرد على هذا الصعيد، في حين ان الاتفاق واضح بين الجانبين وهو يقضي بألا يمارس أي منهم ضغطا على أي طرف لبناني لتسجيل نقاط في ملعب الآخر، وهو ما يعبر عنه حلفاء سورية في خطابهم السياسي بنفيهم القاطع لتنفيذ اي طلب سوري من خلال ما يجري في حين انهم يؤكدون أن ما يجمعهم بها هو وحدة الرؤية الاسترايجية في الصراع القائم في المنطقة، وهذا كاف لإعطائهم حرية معالجة الملفات الداخلية انطلاقا مما يحفظ مصالحهم، والدفاع عنها كما يحفظ مصلحة لبنان التي يرونها في جعله رقما في معادلة المنطقة.
لا تنفي الأوساط نفسها،قلقها من الأداء الذي يقوم به حلفاء الحريري في التعاطي مع تداعيات تصريحه، وترى فيه إصرارا على ركوب الخطأ، في حين يؤكد ذلك ان ما قاله الحريري في جلسة معايدة فريقه بعد السحور الدمشقي، وقبيل مغادرته الى العمرة التي لم يعد منها حتى الآن، ما هو إلا زلة لسان قد يدفع ثمنها غاليا انطلاقا من المثل القائل "يخرج من اللسان ما يتسبب بقطعه" إذا لم يقدم على خطوات تحفظ البلاد من شرور أنفس المتربصين به في الداخل والخارج، وإلا سيكون الحريري قد وقع في مستنقع الدماء الذي يحرص على ألا يقاربه على الاطلاق انطلاقا من قناعاته ومبادئه.
لقد أصبحت المعادلة واضحة، فإما محكمة لبنانية نزيهة وغير مسيّسة تعيد فتح ملف قضية الحريري، والقضايا الأخرى المتصلة، كقضايا وطنية على قاعدة محاسبة شهود الزور، أو لا محكمة ولا حقيقة. وبالتالي لن تكون هناك دولة ولا قضاء ولا سلطات في ظل ما سينتج من فوضى يتحمّل الحريري وحده المسؤولية حيالها بعدما سقط منطق التسويات غير العادلة.