نموذجٍ جديدٍ للفوضى والتَّفتيت

نموذجٍ جديدٍ للفوضى والتَّفتيت

استهداف الأقصى
في فلسطين المحتلَّة، يُضيِّق العدوُّ الخناق على المسجد الأقصى لتهويده، من خلال الخطَّة الجديدة الّتي صادقت عليها حكومة العدوّ لتوسيع الباحة المحيطة بحائط البراق، عبر مواصلة الحفريّات وإقامة الأبنية، لتطويق المسجد الأقصى واستهدافه بشكلٍ مباشر، وإضفاء طابعٍ تهويديٍّ على المنطقة المحيطة به...
وفيما يناشد الفلسطينيّون والمؤسَّسات المعنيَّة بالأقصى المسلمين والعرب القيام بمسؤوليَّاتهم تجاه القدس، أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشّريفين، تشدّ الأنظمة رحالها إلى واشنطن لاستطلاع رأي الإدارة الأمريكيَّة، وتطييب خاطرها حيال هموم العرب ومشاكلهم، مع أنّ هذه الإدارة مشغولة بتحضير ضماناتٍ خطيَّةٍ جديدةٍ لحكومة العدوّ، مشفوعةٍ بصفقةٍ من الطَّائرات الأشدِّ فتكاً في العالم، حتَّى يأخذ العدوّ كلّ شيءٍ من دون أن يضمن للفلسطينيّين وللجامعة العربيَّة إلا تجميد الاستيطان لفترةٍ قصيرةٍ تكون نهائيَّة، ويُستكمل بعدها مسلسل التّهويد الّذي ينسف كلّ إمكانيةٍ لقيام الدّولة الفلسطينيّة المستقلّة الّتي يتداول العرب الحديث عنها في يوميّاتهم السياسيّة، واجتماعاتهم على مستوى القمم الكبيرة والصّغيرة، وهم يتضاحكون لأنّها مشاريع أوهامٍ تُرمى بوجه الشّعوب من على منابر السّاسة.
وهكذا تدور اللّعبة الدَّوليَّة الكبرى في طاحونةٍ إعلاميَّةٍ سياسيَّةٍ عنوانها تجميد الاستيطان، ويسقط العنوان الرَّئيس الّذي هو الاحتلال، ويدخل الفلسطينيّون مجدّداً في متاهات التّفاصيل الّتي تضيع فيها القضيّة ويتوه فيها المصير..

المنطقة تواجه مشاريع التَّفتيت
لقد سقطت مشاريع الحلول والتَّسويات في المنطقة قبل أن تسقط مساحيق التَّجميل عن وجه الرَّئيس الأمريكيّ الّذي أشبع العالم الإسلاميّ كلاماً، ثم تبنَّى سياسة سلفه في مشاريع الفوضى الخلاّقة الّتي تطلّ برأسها وسط مشاريع التَّفتيت القادمة على المنطقة من البوّابة السّودانيّة أو اليمنيّة أو الصّوماليّة، ومن متاهات الوضع العراقيّ والأفغانيّ، ليُخيّر العرب في نهاية المطاف بين فتنٍ تطلّ برأسها في كلِّ مكان، أو الخضوع لإرادة التّسليم للمحتلّ الصّهيونيّ والأمريكيّ، الّذي لا يدخل إلى أرضٍ إلا ويذرها قاعاً صفصفاً، أو يتركها فريسةً ينهشها الفقر والجوع وأنياب الفتن المذهبيّة والطّائفيّة والسياسيّة.
أمَّا أولئك الّذين لا يستمعون إلى خطابات الرَّئيس الأمريكيّ، ولا ينصتون إلى نصائح إدارته وتعليماتها، فيلوّح لهم بسوط الحلف الأطلسيّ، الّذي أعلن في قمّته الجديدة الّتي عُقِدَت قبل أيّامٍ في لشبونة، عن إقراره الاستراتيجية الجديدة حيال المنطقة، وعن نشره صواريخ جديدة في تركيا، وعن إدخاله العالم الإسلاميّ كلّه في دائرة الاستهداف، في سياق خطّته القائمة على استعداء المسلمين، بعدما اقتربت منه روسيا أكثر، وبات يتطلّع إلى الاقتصاص من العدوّ التاريخي ـ الّذي هو الإسلام ـ كما عبّر ويعبّر أكثر من مسؤولٍ في هذا الحلف.
لقد دخلت المنطقة في عنق الزّجاجة، وضاقت الهوامش على كلِّ من عمل لرتق ما فتقته السّياسة الأمريكيَّة والغربيَّة عموماً، وبات على الشّعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تقول كلمتها في سياق حركةٍ واحدةٍ وخطّةٍ واعدة، تعلن فيها لفظ المحتلّ، واحتضان طلاب التَّحرير، وحماية المقاومين المجاهدين الّذين يُراد لمقاومتهم أن تسقط في حروب التَّشويه والتَّشويش القادمة تحت عناوين قضائيَّة، أو لحساب مشاريع سياسيَّة أمميَّة تأخذ مصلحة كيان العدوّ في الاعتبار، لا بل تجعلها فوق كلِّ اعتبار.

لبنان أمام نموذجٍ جديدٍ للفوضى
وهكذا يُراد للبنان الّذي كان نموذجاً راقياً للعرب والمسلمين في مسيرة الانتصار على الاحتلال، أن يصبح نموذجاً للفوضى القادمة، وأن تسقط فيه العناوين الكبرى لحساب المشاريع الدّوليّة الوافدة الّتي استطاعت أن تلتفّ على أكثر من حركةٍ إقليميّةٍ كانت تسعى لإبعاد كأس الفوضى والقلق عن اللّبنانيّين، وبالتّالي عن محيطهم العربيّ والإسلاميّ.
أيّها اللّبنانيّون، إنّنا أمام نموذجٍ جديدٍ للفوضى، وأمام حربٍ جديدةٍ تُشنُّ على البلد الصّغير بحجّة الاقتصاص من المجرمين وتحقيق العدالة، ونحن دعاة عدالةٍ، ونريد الوصول إليها، ولكنَّ العدالة لا تتجزّأ، فكما تطلَب العدالة فيما يتعلَّق بما حصل في لبنان من اغتيالات، لا بدَّ أيضاً من توجيه أصابع الاتّهام إلى المجرم الحقيقيّ، إلى الكيان الصّهيونيّ الّذي قتل عشرات الآلاف من اللّبنانيّين، وقام بعشرات العمليّات من الاغتيالات والتّفجيرات، ولكنّه حظي بالمزيد من الرّعاية والحماية لتستمرّ جرائمه، ولتُفتح له السّاحات لمغامراتٍ وحروبٍ عدوانيّةٍ جديدة.
إنَّ الدّماء الّتي نزفت من أجل استقلال هذا البلد وتحريره من الاستعمار ومن العدوّ الصّهيونيّ، تستحقّ منّا أن نتوحَّد من أجل أن نحافظ عليه، من كلِّ الّذين يكيدون له ويخطِّطون ليكون معبراً لاستيلائهم على كلِّ ثروات هذه المنطقة وتأمين مصالحهم فيها. إنَّ حفظ هذه الدّماء يكون عندما نحفظ هذا البلد في أرضه، فنتابع تحرير أرضه، وفي إنسانه عندما نبني إنساناً حرّاً، وفي سياسته عندما لا نخضع لسياسات الآخرين، وفي أمنه عندما لا نجعل أمننا لحساب أمن الآخرين، إنَّ الّذين أفنوا حياتهم لأجل هذا البلد، سيشعرون بالأسى عندما يطلّون علينا، ونحن نتلهّى بالقضايا الصّغرى على حساب القضايا الكبرى، ونفكِّر في حجم مصالحنا أكثر مما نفكِّر في حجم طموحاتهم الّتي كانت بحجم هذا الوطن، وبحجم حريّة أبنائه الّذين قدّموا أنموذج الحريّة للشّعوب الأخرى.

خطبتي الجمعة
(20 ذو الحجّة 1431هـ/ الموافق: 26 كانون الأوّل 2010م)
*ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله

نجل الشهيد العلامة المرجع الاعلى الكبيرالفقيه المجدد الامام السيد محمدحسين فضل الله
(قدس سره)

خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، الضاحية الجنوبية لبيروت بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين.
انقر لقرأءة الخطبة ...التفاصيل

استمع الى الخطبة