بَحرٌ مِنَ العِرفَـانْ لِـ الشاعر جاسم الصحيح إلى رُوح العلاّمة المرجع الإسلامي
السيّد محمد حسين فضل الله رحمه الله
من أينَ لـي بيقينِكَ الرَّبَّانـي
لأغوصَ في بحرٍ من العرفانِ
لا حِصَّةٌ لِـيَ في اليقينِ، وإنَّما
في الـحُبِّ ما يكفي من الإيمانِ
وأنا أُحِبُّكَ منذُ أنْ أَلْهَمْتَني
صيدَ الرُّؤى وصناعةَ الوجدانِ
الآنَ أسبحُ فيكَ حتَّى ألتقي
بالجوهرِ المكنونِ في القيعانِ
فإذا طَفَتْ روحي مع الزَّبَدِ الذي
يطفو فذاكَ خُوَائِـيَ الرَّوحانـي
دَقَّ الأسى شَفَتَـيَّ بِاسْمِكَ مثلما
دُقَّتْ على نخبِ الهوى، كأسانِ
ونَسَجْتُ مرثاتـي عليكَ، فلم يَسَعْ
ثوبُ العزاءِ مناكبَ الأحزانِ
يا راحلاً زَرَعَ الرحيلَ على فمي
شوكاً بِهِ تتجرَّحُ الشَّفَتاَنِ
سَقَطَتْ من الكلماتِ بعضُ حروفِها..
أتلومُني في تعتعاتِ لسانـي ؟!
يا ابنَ الحقيقةِ في سلالتِها التي
تمتدُّ حتَّى منبتِ البرهانِ
كلُّ الكلامِ مُـمَوَّهٌ بـدُخاَنِهِ
إلاَّ كلامُ الـحُبِّ دون دخانِ
قلبي يشاطرُكَ الحديثَ وينتقي
كَلِماَتِهِ من معجمِ الخفقانِ
الليلُ لم يَـخْذُلْكَ منذُ تلامَعَتْ
عيناكَ فيهِ كلَوْحَتَيْ إعلانِ
تجلو سؤالَ الطينِ: هل من حكمةٍ
خلفَ العذابِ تليقُ بالطَّيَّانِ ؟!
وتَرَى الخليقةَ لوحةً فَنِّيَّةً
لكنَّها مكتوفةُ الألوانِ
قَفَزَ الضُّحى من مقلتيكَ إلى الكُوَى
حتَّى تسلَّق حاجزَ الجدرانِ
وزَرَعْتَ حُلْمَكَ في خيوطِ عمامةً
غَرَّاءَ فانْعَقَدَتْ على بستانِ
ووَزَنْتَ نفسَكَ في موازينِ الفدى
بَطَلاً بـثِقْلِ حقيقةِ القُربانِ
وحَمَلْتَ أعباءَ الحياةِ بـكاهلٍ
رَبَتَتْ عليهِ أناملُ (القرآنِ)
ورَحَلْتَ فوق سفينةِ الرُّسُلِ التي
هِيَ ما تزالُ فريسةَ الطوفانِ
بحرٌ دعاكَ إلى قرارةِ مائِهِ
كيما تُصَفِّيَهُ من الحيتانِ
فطفقتَ تصنعُ للسفينةِ حُلْمَها
ورجعتَ تحملُ خيبةَ الرُّبَّانِ
يا حادياً رَكْبَ الحياةِ إلى غَدٍ
حُرٍّ يليقُ بـلهفةِ الرُّكبانِ
هذا حداؤُكَ ما يزالُ على المدى
يمتدُّ في أفقٍ بلا قضبانِ
ويقودُ مَنْ تاهوا قيادةَ (هدهدٍ)
ما اسْتَدْرَجَتْهُ متاهةُ (الغربانِ)
وبقيتَ أنت مع الذين توزَّعوا
في الوقتِ وانتصـروا علـى النسيانِ
قَسَماً بشيبتِكَ التي انْتَثَرَتْ علـى
شطِّ الخلودِ نوارساً وأغانـي
زَمَنٌ بـاِسْمِكَ باتَ يعرفُ نَفْسَهُ
ويتيهُ بين مواكبِ الأزمانِ
لم يَتَّسِعْ لَكَ من خريطتِنا سوى
وطنٍ بحجمِ مساحة الغفرانِ
(لبنانُ) حيث البحرُ أقدمُ عابدٍ
صَلَّـى بكلِّ مراكبِ الأديانِ
وتَكَوَّنَتْ (بيروتُ) : أَوَّلُ غادةٍ
بَشَـرِيَّةٍ وَطَأَتْ علـى الشُّطآنِ
وهُنا دعاكَ اللهُ من عليائِهِ
لتكونَ حربتَهُ علـى الشيطانِ
فأَحَسَّكَ الفُقَرَاءُ وَسْطَ بطونِـهِمْ
حرباً بـوجهِ الجوعِ والحرمانِ
واختارَكَ الثُّوَّارُ كِلْمَةَ سِـرِّهِمْ
بين الجبالِ الشُّمِّ والوديانِ
لم يفترقْ نـهرانِ في مـجراهُـما
إلا وعادا فيكَ يلتقيانِ
يا مَنْ رسمتَ على تضاريسِ الهوى
خَطَّ استواءِ الـحُبِّ في الإنسانِ
الأرضُ تشبهُ بعضَها، لكنَّما
(لبنانُ) لم يشبهْ سوى (لبنانِ)
يا سيدي.. والشعرُ سهمٌ ضاربٌ
عبر الزمانِ.. بِهِ حفرتُ زماني
والحبرُ شـريانُ البياضِ بدفتري
يـجري بما أسقيهِ من شـريانـي
لِـيَ -كلَّ حينٍ- في القصيدةِ غزوةٌ
وأعودُ.. ما بَلَغَ الفتوحَ حصانـي
و(غُرابـ)ـيَ العربـيُّ حيث يقودُنـي
آوي إلى جُثَثٍ من الأوطانِ
أنا كالغَضَا يمتدُّ عُمْرُ لهيبِهِ
بعدادِ ما يـحوي من الأشجانِ
الـحُبُّ حَلَّفَني بألاَّ أتركَ (الـ-
تُفَّاحَ) مصلوباً على الأغصانِ
روحي تحنُّ إلى الغيوبِ كأنَّـها
وُعِدَتْ هناكَ بـسِـرِّها الفَتَّانِ
في داخلـي بُنٌّ يصارعُ سُكَّراً
كيما تزيدَ حلاوةُ الفنجانِ
ما بين شَكِّيَ واليقينِ مسافةٌ
ضَيَّعْتُ في غرباتِـها عنوانـي
وطَوَتْ هُوِيَّتِيَ الرياحُ، كأنَّني
صحراءُ هاربةٌ من الكثبانِ
ما نَفْعُ بوصلةٍ تشيرُ إلى المدى
لكنَّما بـمُؤَشِّـرٍ سكرانِ ؟!
كَمْ مُتُّ بين قصيدةٍ وقصيدةٍ
ودنا الحسابُ وجاءَنـي (الـمَلَكاَنِ)
قلتُ: ارْجِعُونـي لا لأعملَ صالـحاً
فيما تركتُ من النعيمِ الفانـي
لكنْ لأعتنقَ الوجودَ بفكرةٍ
أخرى، وأبحثَ عن جمالٍ ثانـي
إنَّ الحياةَ متى تُكَرِّرُ نفسَها
تفنَى بروحِ المبدعِ الفنَّانِ
يا ربُّ.. عُذْرَكَ في سؤالِ مُعَذّبٍ
قَذَفَتْ بهِ الأسرارُ في بركانِ :
هل صُنْتَ سِرَّكَ في مكانٍ آمنٍ
لَمَّا وَضَعْتَ السِّرَّ في الإنسانِ ؟