كتب عماد مرمل - السفير
لم تكن الوردة التي وضعها الشاب تيمور جنبلاط على ضريح جده الشهيد كمال جنبلاط في المختارة مجرد طقس من طقوس إحياء ذكرى استشهاده، بل هي بدت، وكأنها تستقر على ضريح الماضي كذلك، في ترجمة عملية لقرار والده وليد جنبلاط بفتح صفحة جديدة في العلاقة مع سوريا عنوانها هذه المرة المسامحة والنسيان. لقد حملت تلك الزهرة معاني عدة، اختلط فيها السياسي بالشخصي، والعام بالخاص، ولعله يمكن الذهاب في البناء على رمزيتها الى حد اعتبارها إيذانا ببدء طلائع الربيع السياسي لتيمور.
بالطبع، لن يكون منطقيا حرق المراحل والفصول، وصولا إلى التوهم أن مراسم التسلم والتسليم بين الابن والأب توشك على الاكتمال. ومن يعرف حقائق قصر المختارة يدرك أن كل كلام عن اعتزال أو انكفاء للنائب وليد جنبلاط في المدى المنظور هو ضرب من ضروب الخيال، حتى لو ان الزعيم الدرزي تعمد في أكثر من مناسبة أن يعطي إيحاء من هذا النوع، لأسباب ربما يتصل بعضها بحسابات المناورة السياسية أو بضرورات توجيه الرسائل المرمّزة.
وإذا كان الوجدان الجماعي للموحدين الدروز يجد في كمال جنبلاط رمز النضال من اجل التحرر والعدالة الاجتماعية وفي تيمور النافذة المفتوحة على المستقبل، فإن وليد جنبلاط يبقى صانع مجدهم في العصر الحديث، وتحديدا منذ «حرب الجبل» (1983) التي شكلت نقطة تحول تاريخية لدى الدروز الذين انتقلوا من مرحلة الإحساس بالخطر إلى مرحلة الإحساس بفائض القوة، ولدى جنبلاط نفسه الذي انتقل من طور الوريث البيولوجي الآتي بزخم «منطق الجينات» الى طور الزعيم الصانع لتجربته وزعامته. وبهذا المعنى، لا أحد يستعجل ذهاب وليد الى التقاعد، مع الأخذ بالاعتبار أهمية عملية التأهيل التي يخضع لها تيمور، وفق ما يقال في الصالونات الحزبية.
تحت فيء هذه المعادلة، بدأ تيمور في خوض «معمودية النار» السياسية، بإشراف مباشر من والده. كان تيمور قد سافر مع بداية الأزمة الوطنية الكبرى في 2005 إلى فرنسا حيث درس العلوم السياسية، مبتعدا عن كل التباسات السنوات الماضية واختباراتها المؤلمة، الأمر الذي أتاح عدم «احتراقه» او «استهلاكه». أنجز تيمور مهمته الاكاديمية في باريس، وعاد الى لبنان الذي يحتاج فهم تركيبته المعقدة واكتساب نمط التعاطي معها الى منهاج خاص لا يتوافر بطبيعة الحال في أرقى الجامعات الفرنسية.
هنا، على أرض الواقع، كان على تيمور أن يدرك جيدا كيفية إدارة لعبة التوازنات الدقيقة بين الطوائف والمذاهب، وكيف يتقن فنون التسويات والمناورات وكيف يحمي ظهره ويبني تحالفاته، وينتزع حصة طائفته من بين أنياب النظام الطائفي، وغيرها من قواعد اللعبة التي تدير «الفوضى المنظمة» في هذا البلد منذ الاستقلال.
وإذا كان التقليد الشائع ان الطبيب يسعى الى ان يصبح ابنه طبيبا والمهندس يتمنى ان يغدو ابنه مهندسا، وهكذا دواليك.. فإن الزعيم «الاشتراكي» للطائفة الدرزية كان يتطلع الى تعليم ابنه «سر المهنة»، لا سيما ان استكمال ما بدأه الاسلاف ليس خيارا بل هو مسار إلزامي، فكيف إذا أضيف الى هذا «العامل التاريخي» المنقوش في حجارة قصر المختارة عنصر آخر يتمثل في الوظيفة الحيوية التي يمكن ان يؤديها تيمور في المستقبل للتخفف من أثقال مرحلة والده، وخاصة في السنوات الأخيرة، وربما من أخطائها، بما يحصن مصالح الطائفة الدرزية ويعزز موقعها اللبناني والعربي.
وإذا كان القدر قد أتى بوليد قسرا الى الحياة السياسية من دون مشورته، وألبسه فجأة عباءة الزعامة المخضبة بدم والده والمثقلة بالمسؤوليات الكبرى، فإن الزعيم الدرزي يبدو وكأنه يتحايل على القدر الذي اعتاد رسم مسار العائلة، فقرر أن ينتزع منه، او يشاركه على الاقل، في رسم طريقة «انتقال السلطة» في قصر المختارة. وهكذا، بدأ تيمور، تحت ظلال والده، بدورة تدريبية مكثفة في العمل السياسي والشعبي، ميزتها انها تتم بـ«الذخيرة الحية» وتنتمي الى «تلفزيون الواقع».
يقول العارفون بشخصية تيمور انه خلطة من «الجينات الجنبلاطية»، التي تجمع بين وليد وكمال والأسلاف، ولكن الاهم بالنسبة اليهم، انه قادر في الوقت المناسب على وضع بصمته الخاصة، بل يجزم هؤلاء انه سيكون صاحب إضافة. ويروي هؤلاء ان تيمور «عروبي» حتى العظم مع ما يرتبه هذا الانتماء من التزامات تجاه القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، ولكنه في الوقت ذاته ديموقراطي وليبرالي ومنفتح.
ما يزال تيمور يحتفظ ـ حسب عارفيه ـ بصفاء النظرة الى فكرة المقاومة والعروبة، وما زال جمال عبد الناصر وشكيب ارسلان يشكلان جزءا من مكونات وجدانه، لا مجرد تراث في متحف التاريخ أو في مكتبة قصر المختارة. يدرك تيمور أن سوريا تشكل بوابة العروبة، وأن علاقة لبنان بها محكومة بأن تكون مميزة لانها هذه هي إرادة التاريخ والجغرافيا، ولان البديل مستحيل، سواء كان البحر او إسرائيل، فهو مقتنع بأن لا إمكانية لاي صلح مع العدو الاسرائيلي وأن الصلة الوحيدة التي تربطنا به هي حالة الحرب المؤجلة.. بالهدنة.
ولأن ما تستطيع ان تتعلمه من كيس الآخرين يظل أفضل من ان تدفع كلفته من كيسك، بات تيمور، المتابع لتجارب والده، متفهما لحقيقة ثابتة مفادها ان قانون التسوية هو الذي يتحكم بالواقع اللبناني وبالتالي فإن كل صراع داخلي محكوم بأن ينتهي الى تسوية، عاجلا ام آجلا، وليس الاختبار الصعب الذي واجهه البلد خلال السنوات القليلة الماضية وما انتهى اليه من توافقات سوى دليل قاطع على صحة هذه المعادلة.
وربما كان يكفي ان يراقب تيمور المصالحات التي قام بها والده بالجملة مع خصومه السابقين وفي طليعتهم حزب الله والعماد ميشال عون، بعد صراع حاد، حتى تصبح العبرة بالنسبة إليه واضحة.